فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إذن: فالبشارة في هذه الآية ليست بشارة لفظية، إنما هي بشارة واقعية لها واقع يؤيدها، قد حدث فعلًا.
لكن، ما المراد بالأرض في {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} [النور: 55]؟ إذا جاءت الأرض هكذا مُفْردةً غير مضافة لشيء فتعني كل الأرض، كما في قوله تعالى: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض} [الإسراء: 104] يعني: تقطّعوا في كل أنحائها، {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخرة} [الإسراء: 104] الذي وعد الله به {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء: 104] يعني: جمعناكم من الأراضي كلها، وهذا هو الأمل القوي الذي نعيش عليه، وننتظر من الله أنْ يتحقق.
ثم يقول تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ} [النور: 55] ففوق الاستخلاف في الأرض يُمكِّن الله لهم الدين، ومعنى تمكين الدين: سيطرته على حركة الحياة، فلا يصدر من أمور الحياة أمر إلا في ضوئه وعلى هَدْيه، لا يكون دينًا مُعطّلًا كما نُعطِّله نحن اليوم، تمكين الدين يعني توظيفه وقيامه بدوره في حركة الحياة تنظيمًا وصيانة.
وقوله سبحانه: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55] وهم الذين قالوا: نبيت في السلاح، ونصبح في السلاح، فيبدلهم الله بعد هذا الخوف آَمْنًا، فإذا ما حدث ذلك فعليهم أنْ يحافظوا على الخلافة هذه، وأنْ يقوموا بحقها {يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون} [النور: 55].
ومعنى {كَفَرَ بَعْدَ ذلك} [النور: 55] يعني: بعد أن استخلفه الله، ومكّن له الدين وأمَّنه وأزال عنه أسباب الخوف.
وفَرْق بين تمكين الإسلام وتمكين مَنْ يُنسب إلى الإسلام، فالبعض يدَّعي الإسلام، ويركب موجته حتى يحكم ويستتب له الأمر وتنتهي المسألة، لا.. لأن التمكين ليس لك أيها الحاكم، إنما التمكين لدين الله.
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)}.
دائمًا ما يقرن القرآن بين هذيْن الركنين، وتأتي الزكاة بعد الصلاة؛ ذلك لأن الصلاة هي الركن الوحيد الذي فُرِض من الله مباشرة، أما بقية الأركان فقد فُرِضَتْ بالوحي، وضربنا لذلك مثلًا، ولله تعالى المثَل الأعلى بالرئيس الذي يُكلِّف مرؤوسيه بتأشيرة أو بالتليفون، فإنْ كان الأمر مُهمًا استدعى الموظف المختص إلى مكتبه وكلَّفه بهذا الأمر مباشرة لأهميته.
فكذلك الحق تبارك وتعالى أمر بكل التكاليف الشرعية بالوحي، إلا الصلاة فقد فرضها على رسول الله بعد أن استدعاه إلى رحلة المعراج فكلّفه بها مشافهةً دون واسطة، ولما يعلمه الله تعالى من محبة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته قال له: أنا فرضتُ عليك الصلاة بالقرب، وكذلك أجعلها للمصلى في الأرض بالقرب، فإنْ دخل المسجد وجدني.
وإنْ كانت أركان الإسلام خسمة، فإن الشهادة والصلاة هما الركنان الدائمان اللذان لا ينحلان عن المؤمن بحال من الأحوال، فقد لا تتوفر لك شروط الصوم أو الزكاة أو الحج فلا تجب عليك، كما أن الصلاة هي الفريضة المكررة على مدار اليوم والليلة خمس مرات، وبها يتم إعلان الولاء لله دائمًا، وقد وزَّعها الحق سبحانه على الزمن ليظل المؤمن على صلة دائمة بربه كلما شغلتْه الدنيا وجد الله أكبر تناديه.
وانظر إلى عظمة الخالق عز وجل حين يطلب من صنعته أن تقابله وتعُرض عليه كل يوم خمس مرات، وهو سبحانه الذي يطلب هذا اللقاء ويفرضه عليك لمصلحتك أنت، ولك أن تتصور صنعة تعُرض على صانعها كل يوم خمس مرات أيصيبها عَطَبَ؟
وربك هو الذي يناديك ويدعوك للقائه ويقول: «لا أملّ حتّى تملَّوا» ومن رحمته بك ومحبته لك تركَ لك حرية اختيار الزمان والمكان، وترك لك حرية إنهاء المقابلة متى تشاء، فإنْ أردتَ أنْ تظلّ في بيته وفي معيته فعلى الرَّحْب والسَّعَة.
ولأهمية الصلاة ومكانتها في الإسلام اجتمع فيها كل أركان الإسلام، ففي الصلاة تتكرر الشهادة: لا إلا إلا الله محمد رسول الله، وفي الصلاة زكاة؛ لأن الزكاة فرع العمل، والعمل فرع الوقت، والصلاة تأخذ الوقت نفسه، وفيها صيام حيث تمتنع في الصلاة عما تمتنع عنه في الصوم بل وأكثر، وفيها حج لأنك تتجه في صلاتك إلى الكعبة.
إذن: فالصلاة نائبة عن جميع الأركان في الاستبقاء، لذلك كانت هي عمود الدين، والتي لا تسقط عن المؤمن بحال من الأحوال حتى إنْ لم يستطع الصلاة قائمًا صلى جالسًا أو مضطجعًا، ولو أن يشير بأصبعه أو بطرفه أو حتى يخطرها على باله؛ ذلك لاستدامة الولاء بالعبودية لله المعبود.
والصلاة تحفظ القيم، فتُسوِّي بين الناس، فيقف الغني والفقير والرئيس والمرؤوس في صَفٍّ واحد، الكل يجلس حَسْب قدومه، وهذا يُحدِث استطراقًا عبوديًا في المجتمع، ففي الصلاة مجال يستوي فيه الجميع.
وإنْ كانت الصلاة قوامَ القيم، فالزكاة قوام المادة لمنْ ليستْ له قدرة على الكسب والعمل. إذن: لدينا قوانين للحياة، ولاستدامة الخلافة على الأرض قوام القيم في الصلاة، وقوام المادة في الزكاة.
ثم يقول سبحانه: {وَأَطِيعُواْ الرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56] وهنا في الصلاة والزكاة خَصَّ الرسول بالإطاعة؛ لأنه صاحب البيان والتفصيل لما أجمله الحق سبحانه في فرضية الصلاة والزكاة، حيث تفصيل كل منهما في السُّنة المطهرة، فقال: {وَأَطِيعُواْ الرسول} [النور: 56].
ثم يقول الحق سبحانه: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض}.
يعود السياق للحديث عن الكافرين: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض} [النور: 57] يعني: لا تظنن، والشيء المعجز هو الذي يثبت العجز للمقابل، نقول: عملنا شيئًا مُعْجزًا لفلان يعني: لا يستطيع الإتيان بمثله.
فإياك أنْ تظن أن الكافرين مهما عَلَتْ مراتبهم ومهما استشرى طغيانهم يُفْلِتون من عقاب الله، فلن يثبتوا له سبحانه العجز عنهم أبدًا، ولن يُعجِزوه، إنما يُملي لهم سبحانه ويمهلهم حتى إذا أخذهم، أخذهم أَخذ عزيز مقتدر، وهو سبحانه مُدرِكهم لا محالةَ.
وجاء على لسان الجن: {وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ الله فِي الأرض وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا} [الجن: 12].
ونلحظ في قوله تعالى: {وَمَأْوَاهُمُ النار} [النور: 57] أنها عطفتْ هذه الجملة على سابقتها، وهي منفية {لاَ تَحْسَبَنَّ} [النور: 57] فهل يعني هذا أن معناها: ولا تحسبن مأواهم النار؟ قالوا: لا، إنما المعنى: ولا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض لأن مأواهم النار.
{وَلَبِئْسَ المصير} [النور: 57] أي: المرجع والمآب. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)}.
شرع سبحانه في بيان أحوال من لم تحصل له الهداية إلى الصراط المستقيم، فقال: {وَيِقُولُونَ امَنَّا بالله وبالرسول وَأَطَعْنَا} وهؤلاء هم المنافقون الذين يظهرون الإيمان، ويبطنون الكفر، ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فإنهم كما حكى الله عنهم هاهنا ينسبون إلى أنفسهم الإيمان بالله، وبالرسول والطاعة لله ولرسوله نسبة بمجرد اللسان، لا عن اعتقاد صحيح، ولهذا قال: {ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ} أي: من هؤلاء المنافقين القائلين هذه المقالة {مِن بَعْدِ ذلك} أي: من بعد ما صدر عنهم ما نسبوه إلى أنفسهم من دعوى الإيمان، والطاعة، ثم حكم عليهم سبحانه وتعالى بعدم الإيمان، فقال: {وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين} أي: ما أولئك القائلون هذه المقالة بالمؤمنين على الحقيقة، فيشمل الحكم بنفي الإيمان جميع القائلين، ويندرج تحتهم من تولى اندراجًا أوّليًا.
وقيل: إن الإشارة بقوله: {أولئك} راجع إلى من تولى، والأوّل أولى.
والكلام مشتمل على حكمين: الحكم الأوّل: على بعضهم بالتولي، والحكم الثاني: على جميعهم بعدم الإيمان.
وقيل: أراد بمن تولى: من تولى عن قبول حكمه صلى الله عليه وسلم، وقيل: أراد بذلك رؤساء المنافقين، وقيل: أراد بتولي هذا الفريق رجوعهم إلى الباقين، ولا ينافي ما تحتمله هذه الآية باعتبار لفظها وورودها على سبب خاص، كما سيأتي بيانه.
ثم وصف هؤلاء المنافقين بأن فريقًا منهم يعرضون عن إجابة الدعوة إلى الله، وإلى رسوله في خصوماتهم، فقال: {وَإِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} أي: ليحكم الرسول بينهم، فالضمير راجع إليه؛ لأنه المباشر للحكم، وإن كان الحكم في الحقيقة لله سبحانه، ومثل ذلك قوله تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62].
و{إذا} في قوله: {إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ} هي الفجائية أي: فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إلى الله والرسول، ثم ذكر سبحانه: أن إعراضهم إنما هو إذا كان الحقّ عليهم، وأما إذا كان لهم فإنهم يذعنون لعلمهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلاّ بالحق فقال {وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} قال الزجاج: الإذعان الإسراع مع الطاعة، يقال: أذعن لي بحقي أي: طاوعني لما كنت ألتمس منه، وصار يسرع إليه، وبه قال مجاهد.
وقال الأخفش، وابن الأعرابي: مذعنين مقرّين.
وقال النقاش: مذعنين: خاضعين.
ثم قسم الأمر في إعراضهم عن حكومته إذا كان الحقّ عليهم، فقال: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} وهذه الهمزة للتوبيخ، والتقريع لهم، والمرض النفاق أي: أكان هذا الإعراض منهم بسبب النفاق الكائن في قلوبهم {أَمِ ارتابوا} وشكوا في أمر نبوّته صلى الله عليه وسلم، وعدله في الحكم {أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} والحيف: الميل في الحكم؛ يقال: حاف في قضيته أي: جار فيما حكم به، ثم أضرب عن هذه الأمور التي صدّرها بالاستفهام الإنكاري، فقال {بَلْ أولئك هُمُ الظالمون} أي: ليس ذلك لشيء مما ذكر، بل لظلمهم، وعنادهم؛ فإنه لو كان الإعراض لشيء مما ذكر لما أتوا إليه مذعنين إذا كان الحق لهم، وفي هذه الآية دليل على وجوب الإجابة إلى القاضي العالم بحكم الله العادل في حكمه؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، والحكم من قضاة الإسلام العالمين بحكم الله العارفين بالكتاب، والسنة، العادلين في القضاء.
هو: حكم بحكم الله، وحكم رسوله، فالداعي إلى التحاكم إليهم قد دعا إلى الله، وإلى رسوله أي: إلى حكمهما.
قال ابن خويز منداد: واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق.
قال القرطبي: في هذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم، لأن الله سبحانه ذمّ من دعي إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذمّ، فقال {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} الآية. انتهى.
فإن كان القاضي مقصرًا لا يعلم بأحكام الكتاب، والسنة، ولا يعقل حجج الله، ومعاني كلامه، وكلام رسوله، بل كان جاهلًا جهلًا بسيطًا، وهو من لا علم له بشيء من ذلك، أو جهلًا مركبًا، وهو: من لا علم عنده بما ذكرنا، ولكنه قد عرف بعض اجتهادات المجتهدين، واطلع على شيء من علم الرأي، فهذا في الحقيقة جاهل، وإن اعتقد أنه يعلم بشيء من العلم، فاعتقاده باطل؛ فمن كان من القضاة هكذا، فلا تجب الإجابة إليه؛ لأنه ليس ممن يعلم بحكم الله ورسوله حتى يحكم به بين المتخاصمين إليه، بل هو من قضاة الطاغوت، وحكام الباطل، فإنّ ما عرفه من علم الرأي إنما رخص في العمل به للمجتهد الذي هو منسوب إليه عند عدم الدليل من الكتاب، والسنة، ولم يرخص فيه لغيره ممن يأتي بعده.
وإذا تقرّر لديك هذا، وفهمته حق فهمه علمت: أن التقليد، والإنتساب إلى عالم من العلماء دون غيره، والتقيد بجميع ما جاء به من رواية ورأي، وإهمال ما عداه من أعظم ما حدث في هذه الملة الإسلامية من البدع المضلة، والفواقر الموحشة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد أوضحنا هذا في مؤلفنا الذي سميناه: القول المفيد في حكم التقليد وفي مؤلفنا الذي سميناه: أدب الطلب ومنتهى الأرب فمن أراد أن يقف على حقيقة هذه البدعة التي طبقت الأقطار الإسلامية، فليرجع إليهما.
ثم لما ذكر ما كان عليه أهل النفاق أتبع بما يجب على المؤمنين أن يفعلوه إذا دعوا إلى حكم الله، ورسوله، فقال {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} قرأ الجمهور بنصب: {قول} على أنه خبر كان واسمها {أن يقولوا}.